فصل: قال زكريا الأنصاري:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



فخرّ موسى ساجدا للّه يبكي ويقول اللهم ان كنت رسولك فاغضب لي، فأوحى اللّه إليه إني أمرت الأرض أن تطيعك فافعل فيه ما تريد، فقال يا بني إسرائيل من كان مع قارون فليثبت معه ومن كان معي فليعتزل عنه.
ولما عرفوا أن الغضب أخذ مأخذه منه، خافوا وتركوا قارون والتحقوا بموسى ولم يبق مع قارون إلا رجلان، ثم قال يا أرض خذيهم، فأخذتهم إلى أقدامهم ثم قال يا أرض خذيهم فأخذتهم إلى الركب، ثم قال يا أرض خذيهم فأخذتهم إلى الأوساط، ثم قال يا أرض خذيهم فأخذتهم إلى الأعناق، وهم في كل هذا يبكون ويستغيثون ويناشدون موسى اللّه والرحم ويتضرعون له وهو لم يلتفت إليهم، ثم قال يا أرض خذيهم فأطبقت عليهم الأرض، فأوحى اللّه إلى موسى ما أغلظ قلبك يستغيث بك قارون سبعين مرة فلم تغثه، أما وعزتي وجلالي لو استغاث بي مرّة واحدة لأغثته، ولا أجعل الأرض بعدك طوعا لأحد، ثم أصبح بنو إسرائيل الخبثاء النذلاء سيئي النية غليظي القلوب، كافري النعم، يقولون إنما دعا موسى على قارون ليستبد بأمواله، فسمع موسى فدعا اللّه فخسف بداره وأمواله كلها.
هذا وإن اللّه تعالى أراد هذا بقارون ورفيقيه ولو لم يرد لوفقهم بالاستغاثة به والتوبة النصوح.
وأقول ما أغلظ قلوبهم أجمعوا على عبادة العجل وهم يعلمون أنه من صنع السامريّ وهو خبيث منافق منهم، وأجمعوا على عدم الأخذ بالتوراة حتى رفع فوقهم الجبل وأراد أن يسقطه عليهم وهي رحمة لهم، وأجمعوا على قذف موسى وقد بعث لخلاصهم من الرق، وحينما نجّاهم اللّه من البحر وأغرق فيه أعداءهم رأوا قوما يعبدون الأصنام فأجمعوا على قولهم لموسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة وأرجلهم لم تجف بعد من ماء البحر الذي خلقه اللّه معجزة لهم، وأجمعوا على إنكار معجزات كثيرة أظهرها كالشمس في رابعة النهار، ثم هم يجمعون على أن موسى إنما فعل ما فعل بقارون بقصد الاستيلاء على أمواله، قاتلهم اللّه أنى يؤفكون: قال قتادة خسف به فهو يتجلجل في الأرض كل يوم قامة رجل لا يبلغ قرارها إلى يوم القيامة، واللّه أعلم بصحة ذلك، لأنه مشكل إذا صح ما قاله الفلاسفة في مقدار قطر الأرض الذي سنبينه في الآية الأولى من سورة الإسراء الآتية في المعجزة الخامسة والثمانين.
وأما الخسف فلا شك فيه ومنكره كافر.
هذا أيها العاقل الكامل مصير الدنيا بأهلها، أما الآخرة فاسمع ما يقول اللّه تعالى فيها {تِلْكَ} التي مرّ وصفها غير مرّة هي {الدَّارُ الْآخِرَةُ} الباقية الدائمة ذات الجنات والنعيم الدائم والصحّة والأمان {نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ} على غيرهم ترفعا وتكبرا {وَلا فَسادًا} في هذه الدنيا كقارون وأضرابه بل للذين آمنوا وعملوا الصالحات الذين يعملون لعاقبتهم {وَالْعاقِبَةُ} المحمودة {لِلْمُتَّقِينَ} 83 اللّه في الدنيا المتباعدين عن لأحوال المذمومة كالظلم والعسف والخيلاء والتجبر، الذين يأبون الأعمال السيئة وينكبون على الأعمال الصالحة لأنهم علموا أن {مَنْ جاءَ} ربه يوم القيامة {بِالْحَسَنَةِ} الواحدة {فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها} عشر أمثالها إلى سبعمئة، واللّه يضاعف لمن يشاء {وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ} في دنياهم ولم يقلعوا عنها {إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ} 84 أي بمثلها فقط، وهذا من لطف اللّه بعباده جلّت رأفته، فإنه لم يذكر للسيئة جزاء أكثر منها، وقد ذكر للحسنة جزاء بما لا حدّ له فنعم الرب رب العالمين.
روى البخاري ومسلم عن ابن عباس رضي اللّه عنهما عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عز وجل قال: «إن اللّه كتب الحسنات والسيئات ثم بين ذلك فمن همّ بحسنة فلم يعملها كتبها اللّه له حسنة كاملة، وان هم بها فعملها كتبها اللّه عنده عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة وان هم بسيئة فلم يعملها كتبها اللّه عنده حسنة عاملة، وإن هم بها فعملها كتبها اللّه سيئة واحدة».
فانظر يا أخي وفقني اللّه وإياك على عظيم فضل ربك ولطفه، وتأمل هذه الألفاظ لأن قوله: «عنده» إشارة إلى الاعتناء بها وقوله: «كاملة» للتأكيد وشدّة الاعتناء، وقوله في السيئة التي هم بها ولم يعملها كتبها عنده حسنة كاملة، فأكدها أيضا لأنه إنما تركها خوفا من اللّه مكافأة بذلك، وان عملها كتبها سيئة واحدة فأكدها لتقليلها ولم يؤكدها بكاملة له الحمد والمنّة هو أهل الثناء والمجد، سبحانه ما أرحمه بعباده وأكرمه على عباده هذا أول الآيات المدنيات قال تعالى: {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ} أوجب تلاوته عليك وهو اللّه ربك الذي تكفلك {لَرادُّكَ} كما أخرجك من بيتك {إِلى مَعادٍ} وأيّ معاد لا يكون مثله لغيرك، قال ابن عباس إلى مكة، وأخرجه البخاري عنه وقال البلقيني معاد الرجل بلده لأنه يعود إليه وأطلق المعاد على مكة لأن العرب تعود إليها في كل سنة، قال الدواني في كتاب العود حدثني عبد اللّه قال حدثني أبي قال حدثني علي بن الحسين عن أحمد بن موسى عن يحيى بن سلام قال: بلغني أن النبي صلّى اللّه عليه وسلم حين نزل عليه جبريل.
عليه السّلام بالجحفة وهو متوجه من مكة إلى المدينة فقال أتشتاق يا محمد إلى بلدك التي ولدت فيها؟ قال نعم، فأنزل اللّه {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ} إلخ وهذا وعد من اللّه إلى نبيّه بإعادته إلى بلده في الدنيا والآية التي قبلها تضمنت له الوعد بالعاقبة الحسنى بالآخرة، صرّح حضرة الرسول لأخيه جبريل بأنه مشتاق إلى وطنه، ولم يمض على مفارقته له ثلاثة أيام، لأن هذه الآية نزلت بعد الخروج من الغار بالمحل المذكور بين مكة والمدينة، وهذه أول بشارة من اللّه له وأول خير أخبر به بسبب الهجرة الشريفة التي جعلها اللّه فاتحة لفتح البلاد وإيمان العباد، ونصرة الدين، ولهذا المغزى روي حب الوطن من الإيمان، فكان صلّى اللّه عليه وسلم يكثر من قوله الوطن الوطن، قال عمر لولا حب الوطن لخرب بلد السوء، أي أن أحدا لا يسكن إلّا بالأحسن، فينشأ منه خرابه، وتترك البلاد الرديئة المناخ والقرى البعيدة عن العمران، وتنقطع فائدة الارتباط ويحرم الناس من خير كثير، إذ قد يوجد فيها ما لا يوجد في المدن الكبرى من خيرات ومعادن، مما يحتاجه البشر، لهذا فإنه جل شأنه غرز في قلوب عناده محبة أوطانهم مهما كانت، وحبب كل محل لأهله بحيث يخيرونه على غيره، ولا يركنون إلا إليه، حتى أن أهل القرى الآن لمّا يأتون إلى المدن لا يطيب لهم النوم بها مع أنها أحسن وألطف من قراهم، وفيها ما لا يوجد عندهم ولا يعرفونه فتراه يصرف جهده لإنجاز عمله ليذهب فينام عند أهله ولو كان الوقت ليلا أو حرا أو بردا، لحكمة أرادها اللّه، ولهذا فإن كل خلق يحن إلى وطنه الذي ولد فيه، وجعل ذلك طبيعة غريزية في خلقه، فترى الإبل تحن إلى مراحها، والطير إلى وكرها، والوحش إلى كناسها، والحيتان لمياهها، والإنسان لوطنه، ولو كان نفعه ورزقه في غيره، فالسعيد من يوطن نفسه في حب اللّه وللّه در القائل:
لكل شيء إذا فارقته عوض وليس للّه إن فارقت من عوض هذا، وهناك أقوال كثيرة في معنى المعاد، منها المقام المحمود لأنه المعاد الدائم لحضرة الرسول صلّى اللّه عليه وسلم، ومنها أنه الجنة، ومنها أنه بيت المقدس لوقوع الإسراء منه، ومنها أنّه المحشر لتسميته به، وهو لابد لكل أحد من الحضور فيه، ومنها، ومنها، فقد صرفنا النظر عنها واخترنا ما عليه الجمهور منها قال تعالى: {قُلْ} يا سيد الرسل لهؤلاء الذين اضطرّوك للخروج من بلدك قسرا بزعمهم أنك ضللتهم وآلهتهم {رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جاءَ بِالْهُدى} يعني نفسه صلّى اللّه عليه وسلم {وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} 85 يعني هم القائلون له إنك لفي ضلال عما كان يعبده آباؤك، قال تعالى: {وَما كُنْتَ تَرْجُوا} يا أكرم الرسل {أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ الْكِتابُ} من ربك ولا كنت تظنّه ولا تتصور أن نرسل إليك عبدنا جبريل بوحينا دون سائر الناس {إِلَّا رَحْمَةً} عظيمة خصصت إلقاءه إليك {مِنْ رَبِّكَ} تفضلا منه بما قدره إليك في أزله {فَلا تَكُونَنَّ} بعد أن شرفناك بوحينا وأقمناك خليفة في الأرض عنا {ظَهِيرًا لِلْكافِرِينَ} 86 بي وبك وبه فتعاونهم على ما يريدون، ولا شك أن حضرة الرسول يعلم به ربه أنه لا يؤازر الكافرين، ومن المحال أن يخطر بباله ذلك، كيف وهو منصرف إلى ربه بكلّيته، وقد عادى أقاربه وقومه من أجله.
وان ظاهر هذا الخطاب وان كان منصرفا له صلّى اللّه عليه وسلم، لكن المراد به غيره، وهذه الآية نزلت على أثر دعاية المشركين له أن يرجع لدين آبائه كي يناصروه ويظاهروه ويعينوه ويملكوه عليهم ولما لم ينجع به ما حاكوه في دار الندوة بأن يقتلوه أو يخرجوه أو يجسوه، وهاجر على أثر هذا كما سيأتي تفصيله في بحث الهجرة آخر سورة العنكبوت في ج 2، فنزلت هذه الآية بالمحل المار ذكره ردا على ذلك، وفيها إشارة بأن اللّه تعالى هو ظهيره على قومه الذين أخرجوه، ومؤازرة لنصرته عليهم ورجوعه لبلده، وإذ لم يؤمر بعد بقتالهم أشار إليه بأن أعرض عنهم وعن معاونتهم {وَلا يَصُدُّنَّكَ} مكرهم وكيدهم وتخويفهم لك {عَنْ آياتِ اللَّهِ} والعمل بها {بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ} بعد زمن إنزالها، لأن إذ يضاف إليه أسماء الزمان كقولك يومئذ ووقتئذ وساعتئذ {وَادْعُ إِلى} توحيد {رَبِّكَ} وعبادته كافة الناس {وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} 87 وحاشاه وهو مجتهد بالدعاء إلى توحيده ورفض الشرك وهو معصوم من أن يدعو إلى غير ربه وان المراد تحذير قومه ونهيهم وتذكيرهم بذلك وإلهاب قلوبهم إلى طاعة ربهم، وقدمنا ما يتعلق في هذا البحث وفي عصمة الأنبياء في سورة طه الآية 121 المارة بصورة مفصّلة، فراجعه ترشد إلى ما يحوك في صدرك من هذا واللّه ولي التوفيق.
وهو الهادي إلى أقوم طريق وأعلم أن أصل فعل يصدنّك يصدوننّك، ولذا لم يفتح آخر الفعل مع أنه متصل بنون التوكيد الموجبة لذلك، لأن الضمير للجمع فلو كان للواحد لفتح، وقد حذف من نون الرفع.
لدخول لا الناهية عليه، وحذف الواو لالتقاء الساكنين، أي أعرض عنهم، لا يمنعنك يا أكرم الرسل ما تراه من عربدتهم {وَلا تَدْعُ} على أن الخطاب له صلّى اللّه عليه وسلم، وعلى أن الخطاب لغيره يكتب ولا تدعوا أيها الناس {مَعَ اللَّهِ إِلهًا آخَرَ} لأنه هو وحده المنفرد بالإلهية، له الخلق والأمر الواحد القهار {لا إِلهَ إِلَّا هُوَ} ولا رب غيره، فعليكم أيها الناس بالانكباب على عبادته.
هذا، وأرى أن الأجود في هذا الخطاب أن يكون عاما لكل البشر، وأنما جاء بلفظ المفرد خطابا لحضرة الرسول تعظيما لشأنه، لأنه هو المبلّغ لأمته كلام ربه ليكون أكثر وقعا في قلوب الناس، والعصمة لا تمنع النهي، وهنا يلزم الوقف على كلمة آخر، لان وصلها بما بعدها يصيّر ما بعدها صفة لها، وفيه من الفساد ما لا يخفى، ولذلك أوجب العلماء قراءة علم التجويد وحذروا من لا يعرفه من أن يخطىء في كلام اللّه فقال:
والأخذ بالتجويد حتم لازم من لم يجود القرآن آثم لأن من لازم علم التجويد معرفة الوقف، وأنت خبير كم من وقف بغير محله يغير المعنى، وكم من وصل يفسده، قال صلّى اللّه عليه وسلم في دعائه «وارزقني أن أتلوه على النحو الذي يرضيك عني» فإذا كان حضرة الرسول يدعو ربه أن يوفّقه لأن يقرأ القرآن على الوجه الذي يريده ربّه وهو أعلم الناس به فكيف بنا نحن؟ اللهم وفقنا لهداك وأرشدنا لفهم كلامك ووفق أمة نبيك أن يتعلموا ما به ليفهموه.
ولنا رسالة في علم التجويد تكفي من يطلع عليها لمعرفته صغيرة الحجم كثيرة العلم، واسمها أحسن البيان في تجويد القرآن فعليكم أيها الناس بما يصلح معادكم قبل أن تهلكوا و{كُلُّ شيء} من مكونات اللّه تعالى: {هالِكٌ} لأن مصيره إلى الزوال والاندراس {إِلَّا وَجْهَهُ} ذاته المقدسة، وحاشاه وهو الدائم الباقي الذي لا يحول ولا يزول {لَهُ الْحُكْمُ} فصل القضاء بين خلقه مختص به وحده، وهو الحاكم العدل في الدنيا والآخرة {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} 88 أيها الناس، فيقضي بينكم قضاء مبرما لا مغيّر ولا مبدل له، وهناك في تلك الدار الباقية يجزى الخلق حسما يفصل بينهم.
لأهل الخير جنات ونعمى وللكفار إدراك النكال هذا. واللّه أعلم، وأستغفر اللّه العظيم، ولا حول ولا قوة إلا باللّه العلي العظيم، وصلّى اللّه على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه وسلم تسليما كثيرا. اهـ.

.فصل في الوقف والابتداء في آيات السورة الكريمة:

.قال زكريا الأنصاري:

سورة القصص مكية إلا قوله تعلى ان الذي فرض عليك القرآن الآية فنزلت بالحجفة وإلا قوله الذين آتيناهم الكتاب إلى الجاهلين فمدني.